mercredi 11 mai 2011

الدمار الانساني والثقافي

Farewell Germany

[سارازين Image from unknown archive] [
وداعاً المانيا
في ساعات الصباح المبكرة وأنا في طريقي إلى العمل، حين يكون المترو البرليني مزدحماً، غالباً ما يستوقفني منظر أولئك الذين يجلسون على المقاعد ويغفون فوق زجاجة الجعة التي بين أيديهم. يبدو عليهم وكأنهم سيهوون أرضاً في أي لحظة من الثمالة. كل هذا وعقارب الساعة لم تصل التاسعة صباحاً بعد. لم يكن هؤلاء الألمان في بال المصرفي الألماني تيلو سارازين ( 65 عامًا)  عندما كان يتحدث عن الألمان كشعب يكد ويعمل بشكل دؤوب وتمكن من بناء أحد أقوى الإقتصادات في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لا تكمن المشكلة في التعميم بحد ذاته بقدر ما نجدها في السياق الذي وضع فيه، وهو مقارنة "الألمان" بفئة من االمهاجرين وابنائهم. والمقصود هنا المسلمون عامة والعرب والأتراك خاصة. فهؤلاء هم الذين سيدمرون المانيا بالغباء والكسل! وكأنهم لم يشتركوا في بناء ألمانيا عندما إستقدمتهم كعمال.

المانيا تلغي نفسها" هو العنوان الرنان الذي إختاره سارازين لكتابه الذي سبقته مقابلات صحفية نارية شغلت المانيا فلم تب
ق وسيلة إعلام واحدة لم تتناول الموضوع بصورة أو بأخرى.  والإلغاء أو التدمير الذي يتحدث عنه سارازين هو تدمير من الناحية "النوعية"  بسبب  الأجانب غير المتعلمين ونقص الكفاءات عند المسلمين عامة والعرب والأتراك خاصة ، الذين لا ينفعون لشيء كما يرى سارازين "إلا لإنجاب فتيات محجبات". هؤلاء سيحولون مكتبات ألمانيا إلى جوامع. كما يعتقد سارازين بأن المسلمين يمثلون عبئاً على المجتمع الألماني وبأن كل مشاكل ألمانيا الاقتصادية والثقافية سببها أربعة ملايين فرد ينحدرون من أصول إسلامية.

وسارازين هذا عضو مجلس إدارة البنك المركزي الألماني وشغل في الماضي مناصب عديدة حساسة ومرموقة منها وزير المالية في برلين. أثارت تصريحاته وكتابه جدلاً حاداً وانقساماً في الرأي العام في ألمانيا. كما سببت الكثير من الحرج للمستشارة الألمانية التي رأت أن هذه التصريحات تضر بسمعة ألمانيا وبالبنك المركزي الألماني. ولا أدري لماذا يتمسك سارازين بعضوية الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي من المفترض أن يكون المنتمين له أكثر حساسية تجاه الاحتياجات الاجتماعية للعمال والفئات المحرومة والمقموعة. هذا الحزب الذي حاول في العام الماضي إخراج سارازين، بعد إحدى تصريحاته المثيرة للجدل عن الأتراك، لكنه لم ينجح. وما زال سارازين متمسكاً بعضويته في الحزب.
 تمكن سارازين بالجدل الذي أثاره من إحداث دعاية ناجحة لكتابه فنفدت الطبعة الأولى قبل خروجها إلى المكتبات عبر حجوزات النسخ المسبقة بحسب تأكيدات الناشر. وخصصت له أهم الصحف الألمانية كـ" دي زايت" و" دير شبيغل" مقابلات واقتباسات من كتابه على صفحاتها مما يثير الإستغراب لأنها بذلك أعطته منبراً جديداً وقوياً يساعد على إنتشاره. "إضطر" سارازين إلى التنحي عن منصبه والخروج إلى التقاعد سنة ونصف قبل الموعد المفترض. لكن هذا الخروج لم يأتِ إلا بعد التوصل إلى تسوية بحصوله على إستحقاقات معاشه الكاملة مع إضافة، ليصل ما يتقاضاه شهريا بعد الخروج إلى المعاش في شهر أكتوبر، إلى عشرة الاف يورو في الشهر، كما ذكرت إحدى الصحف الألمانية! في وقت لا  تزيد فيه مستحقات البطالة في ألمانيا على  ال 350 يورو في الشهر. وعلى الشخص أن يعيش منها ويدفع تأمين وفواتير وغيرها!
  ابناء الطبقات الفقيرة يدركون أن ليس بالكد والإجتهاد والدراسة لوحدها يمكنهم أن يحسّنوا مستوى معيشتهم. بل أن العلاقات والأصول الدينية والثقافية والإسم وغيرها كلها تلعب دوراً رئيسياً في النجاح والتقدم في المجتمع الألماني. هؤلاء يمقتهم ويحاربهم سارازين ويحملهم مسؤولية بؤس أوضاعهم بشكل كامل. لا يمكن النظر الى تصريحات سارازين في سياقها العنصري فحسب، بل يجب الأخذ بعين الإعتبار الطبقية والعجرفة البرجوازية تجاه ابناء الطبقات الفقيرة والتي تعاني من مشاكل إجتماعية وإقتصادية لا يريد أن يعرف سارازين مخاطرها وتأثيرها على حظوظ البشر. ومن السهل التغاضي عنها عندما تكون متعلقة بأشخاص من " ثقافات مغايرة" يمكن إسقاطها عليها بسرعة عن طريق ظواهر رمزية كالمحجبات أو طريقة الحديث والحي ولون البشرة الخ.
 
المثير في الزوبعة التي أثارتها التصريحات هو فتح موضوع الإندماج مجدداً. والقاء اللوم في "عدم" الاندماج وتدني نسبة التعليم وارتفاع البطالة بين المهاجرين وابناءهم من العرب والأتراك على "إرث" ثقافي ووضعهم جميعاً في خانة واحدة وتحميلهم المسؤلية الكاملة عن أوضاعهم. ما يتم تغييبه هو أنمن الصعب حدوث أي إصلاحات أوتحسين جذري للأوضاع بدون دعم الدولة. بل أن الدولة بحد ذاتها، ممثلة بمؤسساتها الرسمية وبيروقراطيتها، قد تكون أحد الأسباب وراء تفشي بعض المشاكل.
 
على سبيل المثال فإن نسبة لا بأس بها من اللبنانين والفلسطينين الذين جاؤوا إلى برلين قدموا اليها خلال الحرب الاهلية اللبنانية ولم تحصل الكثير من هذه العائلات على لجوء سياسي رسمي ولكن سمح لها بالبقاء في ألمانيا. وفي الثمانينيات ولبضع سنوات لم يكن التعليم المدرسي إجبارياً لأبناء هؤلاء مما أدى إلى نشوء جيل فيه الكثير من الذين لا يحملون مؤهلات مهنية أو تعليمية كما أن عدداً لا بأس به لا يتقن الألمانية بشكل جيد. واليوم هم آباء وأمهات للكثير من الأطفال الذين يدخلون إلى المدارس وقسم من هذه المدارس تصل نسبة الألمان فيها إلى عشرة بالمئة فقط. أما البقية فهم من العرب والأتراك وأجانب من خلفيات أخرى.
 
  أثارت تصريحات سارازين موجة من النقاشات حول الهجرة والإندماج. وسال كثير من الحبر وكتب عن الموضوع بشراهة. فتح هذا النقاش مجدداً الجدل حول الهوية وإتقان المهاجرين للغة الألمانية وتبنيهم مبادئ "الديموقراطيةالألمانية" وما إلى ذلك مما يقال عادة. وعند الحديث عن "الهوية الألمانية" يتغافل سارازين وغيره من القطيع الذي يطلق التصريحات الديماغوجية والشعبوية والتي لم تعد حصراً على سياسين أو أشخاص من اليمين المتطرف أو الأحزاب المحافظة، يتغافلون عند حديثهم عن عدة أمور منها أنه لا يمكن التعميم والتسطيح بشأن أكثر من ثمانين مليون ألماني والتعامي عن تعدد الانتماءات والهويات. ولكن الأهم هو أن الهوية التي يتحدث عنها امثال سارازين هي هوية وثقافة الطبقة البرجوازية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو من يمتلك الحق في أن يحدد أن هذه "الثقافة" التي تنتمي إليها نسبة قليلة من الأغلبية، وهي الطبقة البرجوازية، هي وحدها التي تمثل
ألمانيا؟
 
فلا عجب أن لا يعرف سارازين شيئاً عن التحديات والصعوبات التي تواجه أشخاص من ذوي الخلفيات الإجتماعية والاقتصادية المتواضعة وهو الذي يتقاضى ما يتقاضاه من أجر.
  يتغافل الكثيرون، عند الحديث عن إندماج المهاجرين، عن حقيقة أن لهذا الإندماج طرفان والطرف الألماني، أو مجتمع الأغلبية، هو جزء من هذه المعادلة وليس خارجها. ولا شك أن المهاجرين ،أفراداً وجماعات، يتحملون مسؤولية جزء من التقصير والفشل في سوء أوضاعهم، لكن لن يساعدهم أو يشجعهم على تحسينها طرحها بهذه الصورة.
ما  قد „يدمر ألمانيا" دون شك، لن يكون "عربي كسول" أو ألماني سكران في المترو أو أي شيء من هذا القبيل الذي قد لا يروق لبرجوازية سارازين المحافظة، بل هي العنصرية وكره الآخر سواء كان فقيراً أو أجنبياً أو من دين مغاير أو كلها معاً والتي تأكل أصحابها وتؤدي إلى متاهات من الصعب الخروج منها. ولا أدري كيف سمح سارازين لنفسه أن يغيب عن باله الدمار الانساني والثقافي الذي حل بألمانيا والذي ما زالت تعاني منه بطرق مختلفة حتى اليوم، وحل بها بعد حقبتها النازية البشعة وتدميرها لإنسانيتها وابناءها

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire