dimanche 8 mai 2011

ألمانيا ما قبل الحربين العالميتين، الأولى والثانية،

تتمتع ألمانيا بموقع متميز بين جميع أمم الأرض، ليس بسبب تقدمها الحضاري والعلمي والثقافي فقط، بل كذلك بسبب ما يتفق البعض على تسميته بـ«المعجزة الألمانية»، حيث نهضت هذه الدولة الأوروبية العظمى من رماد الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية بعد سقوط الرايخ الثالث على يد الحلفاء، لتنطلق في مسيرة إعجازية نحو إعادة البناء التي قادتها لتكون اليوم واحدة من أقوى إقتصاديات العالم على الإطلاق. وإذا كان بعض المحللين والمؤرخين يرجعون هذا التطور المذهل إلى إلغاء أو تخفيض النفقات العسكرية إلى الحد الأدنى، كي يتم التركيز على حقول الصناعة والمعارف السلمية، فإن البعض الآخر من المحللين يرجعون هذه «المعجزة» إلى العقلية الألمانية الجديدة التي ولدت من بين حرائق الحرب لتطلق سلسلة التقدم، كحجر أساس، لكل ما تحقق ويتحقق اليوم. هذا ما جعل من استخدام رمز «العنقاء» رمزًا مطابقًا لحالة ألمانيا، حيث حدثت عملية انطلاق العنقاء من «عمادة النار» fire baptism نحو الأعالي، وكأنها أمة لا تموت.
يذهب المؤرخون إلى أن ألمانيا ما قبل الحربين العالميتين، الأولى والثانية، قد تبنت نوعًا من الفلسفة الاجتماعية المبنية على التقديس الشوفيني للعنصر الآري «الجرماني»، هذا التقديس الذي قاد إلى تعظيم الاعتماد على «البطولة الفردية»، والذي كان سببًا لإشعال وإطلاق طاقات «البطولة الجماعية» الكامنة في داخل الشعب. وقد بدت بوادر هذا الفكر تحت تأثير الحركة الرومانسية المثالية الألمانية transcendentalism، إذ كشفت كتابات «شللر» F. Schiller عن آفاق خلق تعاطف وتفاعل بين المؤرخ من ناحية، وبين الفرد، أو الحدث التاريخي المتمركز حول الفرد، من الناحية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى التركيز على الجانب الشخصي في صناعة الإنجاز التاريخي. وقد أدى هذا الأسلوب إلى التركيز على الطريقة الانتخابية المعتمدة على انتقاء المرحلة التاريخية الإيجابية التي تساعد على بناء الأمة. لذلك بقي الشعب الألماني يؤمن بقوة بفكرة «الولادة–الموت–الولادة الثانية» (رمز العنقاء، ثانية)، حيث اعتمدت هذه الفكرة على فلسفة «هيردر» Herder، ومن ثم على فلسفة تلميذه الفذ «غوته» Goethe، خاصة فيما يتعلق بتطبيقات النظرية الدورية على التاريخ القومي. لقد كان «التطور العضوي» عند هيردر جانبًا مهمًا في حركة تطور المجاميع البشرية، أو الأمم (بدلًا عن التاريخ الكوني)، تلك الأمم التي يشترك أعضاؤها بمشاعر وعواطف قومية وأشكال سلوكية خاصة بها، كنتيجة نهائية لقرون طويلة من التداخل المشترك والتفاعل الجماعي. لذا درس هيردر التاريخ الكوني كحالة مجزأة إلى «وحدات عضوية»، تمتلك كل واحدة منها، وعلى نحو وراثي، قوة «إبداعية وانتظامية» تتمثل فيما يسمى بـ«الروح القومية». لقد بدت هذه الروح، بالنسبة لمفكري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكأنها هي المحرك الفعلي للتغير التاريخي. وهي، لذلك، تعبر عن القوى الوطنية الفاعلة داخل الوحدة الاجتماعية بشكل إيحائي غير مرئي يعمل بصلب تاريخ «الأمة».
أما «نوفالس» Novalis، فهو الفيلسوف الذي كان مدفوعًا بفكرة انبعاث الروح القومية الألمانية، وهي الفكرة التي قادت لبلورة هدف «الوحدة الألمانية». كما اتفق الفيلسوف «فردريك فون شليغل» Schlegel مع نوفالس على هذه الفكرة، ولكنه منح هدف الوحدة الألمانية المنشودة بعدًا دينيًا، بعدًا يتوق إلى روحيات وأخلاقيات العصر الوسيط، كالفروسية والأبوية والقيادة الرشيدة. ومع أفكار هذين المفكرين ظهرت أفكار فلاسفة آخرين من أمثال «فيخته» التي أدت إلى تأسيس حركة قومية تعمل من أجل الوحدة تحت اسم «برلين الفتاة» Berlin Junga (يحتمل أن تكون حركة «العربية الفتاة»، التي ظهرت في العصر العثماني، مستوحاة منها).
لقد مهد هؤلاء الفلاسفة، الذين لم يكونوا شوفينيين متعصبين بالمعنى الحديث الشائع اليوم، إلى ظهور حالة منحرفة من نوع تقديس العنصر و«تأليه» الفرد، خاصة قبل الوحدة الألمانية وبعد ظهور نظرية «الرجل الخارق» superman التي ابتدعها وأطلقها الفيلسوف «نيتشه» Nitsche. الشيء الطريف هنا هو أن أقوى أصداء هذه النظريات، القائمة على تقديس روح المجموعة الإثنية الجرمانية Volksgeist وعلى تمجيد البطولة الفردية، قد ظهرت في بريطانيا وليس في ألمانيا، حيث برز كتاب المفكر الاسكتلندي توماس كارلايل Carlyle الموسوم بـ«في الأبطال وعبادة الأبطال والبطولي في التاريخ» On Heroes, Hero-Worship,   Heroic in History، لقد حاول هذا المفكر إيجاد مخرج لمأزق بريطانيا العصر الصناعي الجديد من خلال طرح «نظرية البطل»، متخذًا من اثني عشر بطلًا تاريخيًا نموذجًا لأشخاص غيروا مجرى التاريخ (لاحظ أن الفصل الثاني من الكتاب هو حول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، البطل نبيًا). لم يكن كالاريل يؤمن بالبطولة الديكتاتورية أو الشوفينية القائمة على العصبيات الإثنية أو الدينية، ولكن تعبير أدولف هتلر Hitler، بعد عقود، عن إعجابه بهذا الكتاب جعل النقاد يعتبرون كارلايل من مؤسسي الفكر النازي، لسوء الحظ، حيث أدى ذلك إلى صدور كتاب بنفس المعنى بقلم  بعنوان «كارلايل وهتلر» Carlyle  Hitler.
لقد أدت هذه التفاعلات الفكرية وآثارها الاجتماعية في ألمانيا إلى ظهور بطل قومي، هو محقق الوحدة الألمانية في القرن التاسع عشر، المستشار «بسمارك» Bismark، الرجل الذي قاد دولته «بروسيا» (نواة ألمانيا الموحدة) إلى توحيد الممالك والدويلات الألمانية في «ألمانيا واحدة» لأول مرة في العصر الحديث. كان هذا الزعيم الألماني، بسمارك، يؤمن بضرورة تقوية وبناء ألمانيا لتعزيز وتكريس وحدتها، ولكنه اصطدم بآخرين ممن كانوا ينظرون بعين الحسد والمنافسة إلى بناء بريطانيا وفرنسا لإمبراطوريتين عظيمتين في الشرق، مما أدى إلى اعتزال بسمارك ووقوع ألمانيا في مصيدة هذا النوع من القيادة الجديدة الطامحة إلى منافسة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية عبر بناء إمبراطورية ألمانية. وهكذا لاحت بوادر الاحتكاك بين ألمانيا من جهة، وفرنسا وبريطانيا، من جهة ثانية. وقد تجسدت طموحات هؤلاء القادة الجدد في فكرة مد خط سكة حديد «برلين-بغداد» لأجل الوصول للمياه الدافئة في الخليج العربي، وكذلك من أجل قطع الطريق أمام البريطانيين نحو جوهرة التاج، الهند. كانت هذه السكة واحدة من أهم أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى تدمير ألمانيا بالكامل، وأدت بعد حين إلى ولادة العنقاء، ثانية، ولكن عبر تأليه الفرد، أدولف هتلر، الذي قاد ألمانيا إلى الحرب العالمية الثانية. انتهت هذه الحرب إلى سقوط الرايخ الثالث Third Reich وتقسيم ألمانيا إلى دولتين: ألمانيا الشرقية (تحت مظلة الكتلة الشيوعية)، وألمانيا الغربية (تحت المظلة النووية للكتلة الرأسمالية الغربية)، حيث ظهر «جدار برلين»، كرمز للتقسيم وكجرح عميق في النفس الجماعية الألمانية، سياج عملاق يفصل بين الشرق والغرب حتى انتهاء الحرب الباردة يوم سقوطه المشهود في بدايات تسعينيات القرن الماضي.
لقد استفاق الإنسان الألماني، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية محاكمات نورنبيرغ للزعماء النازيين، على دولتين مسحوقتين لم يتبق منهما من المعالم شيئًا. وعاش الألمان في فاقة وفقر شديدين. ولكن هذا الانكسار النفسي والمادي لم يمنع الألمان من البداية بالخطوة الأولى على درب الألف ميل. وبواسطة «مشروع مارشال»، الذي أعده الغرب لإعادة بناء ألمانيا «الغربية الاتحادية»، تمكن الألمان من لمّ شملهم والسير على طريق البناء، بينما بقي الألمان الشرقيون محتفظين بتفوقهم وقدراتهم من أجل التميز داخل المعسكر الاشتراكي نفسه. وقد لعبت المرأة الألمانية الدور الأبرز في إعادة البناء وإيقاف وطنها على أقدامه بعد أن خسرت ألمانيا في الحرب العديد من الجنود، حيث أدى هذا إلى اختلال في التركيبة الجنسية للسكان: فزادت أعداد الإناث مقارنة بأعداد الذكور. وهكذا بدأت عنقاء ألمانيا تصعد إلى الأعالي من رماد الحريق : فتطورت الصناعات الألمانية على الجانبين الشرقي والغربي بعد أن تحررت من معوقات الهدر والتبديد العسكري لتغدو، ألمانيا الغربية خاصة، واحدة من أعظم دول العالم، صناعيًا وعلميًا، وثقافيًا، وحضاريًا. وعلى المهتم أن يتذكر أن واحدة من أهم غنائم الحرب العالمية الثانية التي فاز بها المعسكران الأميركي والسوفييتي هي سلب العلماء من ألمانيا وأخذهم للاستفادة منهم.
لكن المهم في هذا التغير الكبير لم يكن يكمن في أموال إعادة الإعمار التي خصصها المعسكران الغربي أو الشرقي، ولا في حيوية الفلسفتين، الاشتراكية والرأسمالية اللتين كانتا سائدتين عبر فترة الحرب الباردة على الجانبين. إن سر الانطلاق الألماني الجديد يكمن في ظهور نوع جديد، أو نظرية جديدة للبطولة، بديلًا عن البطولة الفردية التي قادت إلى الديكتاتورية وإلى العنصرية والحروب. هذا النوع الجديد من البطولة الجماعية هو بطولة الفرد داخل الجماعة أو المجموعة الاجتماعية. وهكذا ظهر العامل الألماني جزءًا من عمال مخلصين في عملها، قادرين على غزو أسواق العالم بسيارات الفولكس فاغن للفقراء، والمرسيدس للأغنياء. وظهر كذلك العالم ورجل القلم، ممثلين لفنون السلام والبناء، حيث ازدهرت ألمانيا من جديد لتبرهن للعالم على حيوية الشعب الألماني، ليس كشعب مختار، حسب الأسطورة الآرية، ولكن كشعب محب للسلام، يؤمن بالتعايش على أساس البناء والتفاعل بداخل محيطه الأوربي والعالمي.
لقد تجسد هذا النوع من البطولة الجماعية في بروز فلسفات وأفكار جديدة، معادية للشوفينية الجرمانية، ومؤمنة بالإنسانية وبالمحبة. وكان من أفضل تعبيرات هذه الفلسفات قد برز في أفكار المسرحي الألماني الفذ «بريخت» Brecht الذي يعد أبرز مؤلف ومنظر مسرحي في العصر الحديث. لقد هرب بريخت من ألمانيا النازية محتجًا على دكتاتوريتها وسحقها للحريات، حيث وجد في أجواء الحرية ببريطانيا وفرنسا ملاذًا أولًا له، ومحطة نحو الولايات المتحدة الأميركية. وهناك، على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي، تبلورت عبقريته القائمة على اعتبار المسرح أداة ووسيلة اتصال جماهيري قادرة على تغيير المجتمع، ليس من خلال تأليه الفرد، ولكن من خلال تعريف الفرد ذاته بواسطة دمجه في روح الجماعة، روح الفريق الذي يعمل بطريقة متناسقة ومتناغمة لبناء الخطاب والعمل الثقافي والفكري. وهكذا ظهرت نظرياته المسرحية المبتكرة في «التأثير الاغترابي» Alienation effect وفي «المسرح البطولة»  Theater، نماذج لروح ألمانية جديدة، روح متحررة من مكبلات الماضي العنصري ومتمسكة بالبطولة الجماعية التي أحالت ألمانيا إلى «جنينة أوروبا»، وليس إلى «أوروبا القديمة»، كما أسماها وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ألمانيا مابعد الحرب قد شهدت حملة شاملة لإعادة تأليف وكتابة المناهج الدراسية والسياسات التعليمية، لتحذف كل ما يمت بصلة إلى تقديس الفرد وتفضيل العنصر الآري من أجل تنقية الأجيال الجديدة مما أصاب ألمانيا سابقًا من براثن العنصرية.
إن ألمانيا الموحدة اليوم تمثل نموذجًا يستحق الدراسة، والمحاكاة أحيانًا، بالنسبة للعديد من أمم الأرض، لاسيما بالنسبة للشعوب العربية التي هي في أمس الحاجة إلى «البطولة الجماعية» التي تصهر البطولة الفردية في بوتقتها على طريق البناء المبدع الخلاق.

1 commentaire:

  1. إن ألمانيا الموحدة اليوم تمثل نموذجًا يستحق الدراسة، والمحاكاة أحيانًا، بالنسبة للعديد من أمم الأرض، لاسيما بالنسبة للشعوب العربية التي هي في أمس الحاجة إلى «البطولة الجماعية» التي تصهر البطولة الفردية في بوتقتها على طريق البناء المبدع الخلاق.

    RépondreSupprimer